التربية التلفازية بين الإيجابيات والسلبيات
قضية أجيال المستقبل أمانة عظيمة في أعناقنا ، فتوفير حياة مثلى لأبناء الغد مسئولية جسيمة تقع على عاتق رجال اليوم لذلك كانت النظرة في التخطيط إلى موضع الأقدام أكبر خطأ في تاريخ الأمم والذي لا يعالج إلا بالنظر إلى أفق المستقبل الرحب والتخطيط لحل مشاكل اليوم والغد معا ككيان واحد لا يتجزأ. وفي عالمنا الإسلامي والعربي تكمن الخطورة في هذا الانهماك الرهيب في قضايا التنمية المعاصرة وتسرب السلبية تجاه مشاكل الأجيال القادمة بخاصة في مسألة التربية والبيئة حيث تتواضع الجهود المبذولة مما يمهد الطريق لنمو بذور الندم بسبب تصرفات الآباء والتي لن يحصد ثمارها إلا الأبناء.
موضوع التربية ساحة مترامية الأطراف يصعب استقصاء أبعادها في هذه العجالة لذلك كان العزاء الوحيد في مناقشتها هو تسليط الضوء على أبرز ملامحها في العصر الحديث والتي تتمثل في التلفاز وأثره الهام في تربية الأطفال.
فلقد أحكم التلفاز قبضته على الأسرة واحتل صدر المجالس في الدور بلا منازع ولا منافس وتربع فيها بشموخ منقطع النظير ، وتشير أحدث الإحصاءات أنه فيما بين 600-700 ساعة على الأقل من عمر الإنسان تضيع سنويا في مشاهدة التلفاز ، ويشكل الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدخول إلى المدرسة أوسع شريحة من مشاهدي التلفاز حيث تبلغ ساعات مشاهدتهم حوالي 22.9ساعة في المتوسط أسبوعيا بينما يمضى أطفال المجموعة العمرية من 6-11سنة حوالي 20.4ساعة مشاهدة أسبوعيا ، بل إن دراسات مسحية أخرى بينت أن هناك أوقات مشاهدة أطول تصل إلى 54ساعة أسبوعيا لمشاهدين لم يصلوا إلى السن المدرسية بعد.
والحقيقة التي لابد أن لا نتغافلها أن للتلفاز آثار إيجابية هامة تتمثل في تدعيم ثقافة المشاهد بما يقدمه من مواد إخبارية وثقافية عن تاريخ وحضارة الأمم والشعوب مما يجعل المشاهد في تجوال دائم بين أرجاء المعمورة وعلى إلمام شبه كامل بالأحداث المحلية والعالمية هذا بالإضافة إلى البرامج الدينية والعلمية والجهود التعليمية و الإرشادية.
إلا أن هذه الإيجابيات تكاد تشغل حيزا متواضعا في الخريطة الإعلامية اليومية أما النصيب الأعظم فللعديد من البرامج الترفيهية من أغاني ومسلسلات وأفلام ومباريات رياضية وغيرها من المنوعات التي تتعارض في بعض الأحيان مع قيمنا وعاداتنا وديننا ، هذا إذا نفينا أن بعضها يكتب وينتج للنيل من ثقافتنا وهويتنا مما يشكل خطرا على الصغير قبل الكبير الأمر الذي جعل أحد المحللين يصف التلفاز بأنه ( السم اللذيذ )
وتتمثل الآثار السلبية للتلفاز على النشء الإسلامي والعربي في اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول : يتعلق بمادة البرامج ودورها في نشر بعض المفاهيم التي تصطدم مع العقيدة الإسلامية الصحيحة والأسس الاجتماعية والأخلاقية لمجتمعاتنا العربية .
أما الاتجاه الثانى : فيتعلق بالتأثير السيئ الذي تحدثه ساعات المشاهدة الطويلة في التكوين النفسي والسلوكي للمشاهد.
• الاتجاه الأول يشمل الجانب العقائدي والأخلاقي والاجتماعي في حياتنا.
( ففي الجانب العقائدي ) نجد أن بعض الأفلام تفسر الكون تفسيرا وثنيا فتارة تتحدث عن العقل المركزي ، وتارة تصور الكون على أنه مخلوق بقوة شريرة وأخرى خيرة يتصارعان ، كما نجد في بعضها الإيحاء بقدرة بعض الخلق على مضاهاة الله في الخلق والإحياء والإماتة مثل بعض المشاهد المتضمنة لإحياء ميت باستخدام عصا سحرية ، فضلا عن نشر بعض المشاهد المحتوية على الدجل والخرافة والشعوذة والسحر والكهانة المنافية للتوحيد حتى وصل الأمر أن وجد أحد الآباء ابنه يسجد لدمية أطفال لكي تحقق له ما يريد .
( أما في الجانب الاجتماعي والأخلاقي ) فلقد أدى الإسراف في عرض الأفلام الغربية ومن سار على نهجها من أفلامنا المحلية إلى تسرب كثير من المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية الخاطئة إلى المجتمع الإسلامي ، كشرب الخمر والمخدرات ، وعقوق الآباء ، والحرية الشخصية دون قيد ولا شرط ، وحب الذات ، والتفكك الأسرى والاختلاط المريب بين الرجال والنساء ، والحب بين الشباب ، وذهاب الغيرة المحمودة من استمرار النظر إلى مشاهد الاختلاط ، وكشف الزوجة على الأجانب ، وسفور النساء والتأثر بالفهم الخاطئ لتحرير المرأة ، هذا فضلا عن تغير المعايير عن القدوة حتى صارت تطلعات بعض الشباب ومنتهى آمالهم أن يكون ( كمارادونا ) أو ( مايكل جاكسون ).
كما لعبت أفلام العنف بعقول الصغار مما أدى إلى ظهور بعض التصرفات العدوانية والشاذة بينهم ووصلت الخيالية والمحاكاة بطفل إلى أن ألقى بنفسه من نافذة أحد الأدوار العلوية بعمارة بالقاهرة محاكيا لشخصية ( فرافيرو ) في الطيران.
• الاتجاه الثاني يشمل التأثير السلبي لساعات المشاهدة الطويلة
أما عن التأثير السلبي الذي يحدثه التلفاز في التكوين النفسي والسلوكي للمشاهد فتعتبر هذه الظاهرة أكثر وضوحا في الأطفال الذين مازالوا في مرحلة التكوين الذاتي والتي تتأثر تأثيرا بالغا بالمؤثرات البيئية المحيطة.
• فقشرة المخ Cerebral Cortex - ذلك الجزء من المخ المسئول عن أشكال التفكير العليا التي تميز الإنسان عن الحيوان – تنقسم إلى نصفين أيمن وأيسر وفي الإنسان البالغ يدير النصف الأيسر معظم أنشطة الدماغ اللفظية والمنطقية ويدير النصف الأيمن الأنشطة المكانية والبصرية والوجدانية ، أما في الأطفال فلا يولد الطفل بدماغ كامل النضج يقوم فيه كل من نصفي الدماغ بوظيفة متميزة ومتخصصة ، لكن من الواضح أن شكلا غير لفظي من العمل العقلي يسبق اللفظي في التطور الباكر للأطفال لأنهم لابد وأن يستخدموا شكلا ما من التفكير غير اللفظي في حياتهم اليومية يواصلون به تشرب الخبرات والمهارات حتى تأتى مرحلة اكتساب اللغة ومع نمو اللغة يبدأ شقي الدماغ في التخصص الوظيفي ويشرع التفكير اللفظي في أداء دورا متزايد الأهمية في تطور الأطفال المعرفي ويتراجع التفكير غير اللفظي عن القيام بوظيفته كمصدر أساسي ووحيد للتعلم إلى أن يحدث نوع من التوازن ويستمر كل نوع من التفكير في العمل ولكن تحت رعاية نصف مختلف من الدماغ
وتكمن خطورة طول فترات المشاهدة التلفازية في أنها لا تساعد الطفل على السير في النضوج الطبيعي والخروج من مرحلة التفكير غير اللفظي إلى مرحلة التفكير اللفظي والنمو اللغوي لديه لأن عملية المشاهدة تجربة غير لفظية بصرية لا تقوم بدور ملموس في نمو اللغة عند الطفل كما أنها تصرف الطفل عن مشاركة لغوية متبادلة مع الأفراد المحيطين ومن هنا يفقد الطفل مصدرا هاما للتنبيه اللفظي الذي يساعده في تنمية المراكز اللفظية في قشرة المخ لذلك كانت العلاقة بين مشاهدة التلفاز والنمو اللغوي عند الأطفال علاقة عكسية ، وفي أحدث الدراسات أظهر الأطفال الذين شاهدوا التلفاز بكثرة مستويات لغوية متدنية حيث فقدوا الساحة الأساسية لنمو اللغة عن طريق الحديث الواقعي والإصغاء ، وإذا كانت المشاهدة التلفازية حقا تتضمن نوعا من النشاط العقلي غير التجارب الواقعية فقد ثبت أن هذا النشاط ينبه الجزء الأيمن من قشرة المخ للطفل وليس الجزء الأيسر فيشب طفل التلفاز من الطفولة ولديه من مهارات نصف الدماغ الأيسر (أي المهارات اللفظية والنطقية) ما هو أقل نموا من المهارات البصرية والمكانية.
• كما امتدت الآثار السلبية للمشاهدة التلفازية إلى عملية القراءة وتطورها عند الأطفال فمما هو معروف أن عملية القراءة ما هي إلا عملية ذهنية بحتة يقوم فيها المخ بتحويل تلك الكلمات المجردة التي نقرئها إلى فكرة عن شيء حقيقي وتنطبع في الذهن صورة هذا الشيء فعندما نقرأ كلمة ( قطة ) تنطبع في الذهن صورة قطة في عملية ذهنية تمضى في سرعة ورفق واستمرارية بينما نحن نقرأ ، والاختلاف الكبير بين هذه الصورة المقروءة والصورة التي نتلقاها عبر التلفاز يتمثل في أننا نخلق صورنا الخاصة حين نقرأ بالاستناد إلى تجارب حياتنا وبما يعكس حاجاتنا الفردية وهذا بالطبع يستلزم مجهودا ذهنيا وتركيزا بينما يجب علينا أن نقبل ما نستقبله حين نشاهد الصورة التلفازية دون بذل أي مجهود ذهني أو تركيز لذلك يقول برونو بتلهايم Bruno Bettelheim : التلفاز يأسر الخيال لكنه لا يحرره أما الكتاب الجيد فإنه ينبه الذهن ويحرره في الوقت ذاته .
ومن هنا كانت التجربة التلفازية إلى جانب أنها تقلل حاجة الأطفال إلى القراءة عن طريق شغل أوقاتهم تؤثر بصورة بعيدة الأثر في الطرائق العملية التي يقرأ بها الأطفال ( أسلوب القراءة ) والتي تتسم بالسطحية المفرطة بالإضافة إلى قلة الانتباه أثناء القراءة وعدم بذل القدر الكافي من التركيز كما أن الصبر المتطلب لعلمية القراءة يمكن أن ينفد بسرعة .
ولذلك فليس بمستغرب أن نجد انتشار ظاهرة تراجع المستوى الدراسي لأطفال التلفاز فضلا عن تدنى قدراتهم العقلية والخبرات الخاصة نتيجة حرمانهم من ممارسة القراءة وترصد [ مارى وين ] هذه الظاهرة فتقول : إن المشاهد في التجربة التلفازية تقوده مقتضيات وسيلة آلية وهو عاجز عن استخدام أرفع قدراته العقلية تطورا أو تلبية حاجاته الانفعالية الفردية ، إنه يتسلى حين يشاهد التلفاز لكن مشاركته السلبية تتركه كما هو دون تغيير من حيث المعنى الإنساني ذلك أن المشاهدة التلفازية توفر للمرء اللهو والتسلية بينما القراءة تتيح له النمو وتدعمه.
ولذلك لاحظ الباحثين وجود علاقة بين طول ساعات المشاهدة التلفازية وانخفاض مستوى التحصيل الدراسي حيث أثبتت أربع دراسات حديثة قام بها المعهد القومي للصحة العقلية MIMH في الولايات المتحدة الأمريكية أن هناك ارتباطات سلبية قوية بين المشاهدة التلفازية والتحصيل الدراسي.
• والمشاهدة التلفازية الطويلة تسببت أيضا في انخفاض مستوى مهارة القراءة المتقدمة لدى الطلاب فبعد أن خضعت مجموعة من التلاميذ لقياس NAEP أظهرت النتائج تراجعا خطيرا خلال السنوات الماضية في هذا النوع من المهارات .
ومهارة القراءة المتقدمة ( أي ذات المستوى العالي ) يطلق عليها التفكير الاستدلالي inferential reasoning وهى نوع من القراءة المعروفة غير أنها تحتاج إلى بذل تركيز أكبر لاستخلاص استنتاجات وتكوين أحكام وتفسيرات وخلق أفكار جديدة من خلال ما يقرأه المرء ، وهو العامل الحاسم الذي يشكل أساس القراءة الهادفة في شتى المجالات العلمية ومن غير هذا النوع من المهارة تصبح القراءة ممارسة سطحية ، ويرجع السبب في انخفاض تلك المهارة إلى الانتباه المسترخي غير المركز ( السلبية العقلية ) المصاحب للمشاهدة التلفازية الذي يعوق نمو قدرة الأطفال على تفسير المادة اللفظية بطريقة ذات معنى مما يجعل عملية القراءة والتحصيل شاقة جدا وفي ذلك يقول واحد من أبرع كتاب أمريكا إ. ب. وايت E.B. White : لست أعرف حقا ماذا يمكننا أن نفعل من أجل القراءة فيما عدا إلقاء جميع أجهزة التلفاز بعيدا .
• ومن أبرز الآثار السلبية للمشاهدة التلفازية في التكوين النفسي والسلوكي للأطفال هي حرمان الطفل من فترات اللعب حيث تجور ساعات المشاهدة على وقت لعب الأطفال الذي هو الشغل الشاغل للطفولة والذي يعتبر أهم أداة لنقل الكثير من المعارف والوسيلة التي يستطيع بها أن يمارس ويطور سلوكيات ضرورية لنجاحه ككائن اجتماعي ، ففي أثناء اللعب يكافح الطفل ليتغلب على المشكلات والمصاعب التي تواجهه ضمن محيطة ، لقد كان يظن أنه يمتلك القدرة على التحكم بمحيطه لكنه يتعلم سريعا أن عددا كثيرا من الأشياء لا يمكن تحريكها ( كالأشجار ) ويتعلم أيضا أن بعض الأعمال محظورة ( كإيذاء الحيوانات ) وأن بعض الأشياء تسبب الألم ( كلمس الموقد ).
كما أن اللعب له دورا هاما في نمو الطفل الانفعالي فهو يتعلم مع الوقت كيف يسيطر على سلوكه المتهور العدواني النزاع إلى الاستبداد عندما تسبب هجماته بكاء زملائه في اللعب أو تراجعهم أو تصديهم له ومهاجمته.
لذلك أدى غياب اللعب نتيجة طول فترات الجلوس أمام التلفاز إلى نكسة في نمو قدرات الأطفال وأصبح طفل التلفاز يتميز بسلبية متزايدة وقدرة أقل على تحمل الإحباطات الصغيرة وتدن في المثابرة فلا يتحمل الانهماك في عمل يبدو على شيء من الصعوبة في البداية بل إنه في حاجة دائمة إلى الإثارة والتشويق فنجده يحجم عن تحمل البداية البطيئة على أمل الفوز بمكاسب لاحقة ويرصد أحد المربين هذه الظاهرة بقوله : لقد حدثت نقلة من الأطفال النشطاء المندفعين الذين كانوا جد راغبين في فهم الأشياء والشروع في العمل إلى أطفال أكثر حذرا وسلبية ذوى اتجاهات تفتقر إلى التسلية والتوجيه إنهم حتى لا يريدون التقدم واكتشاف الأمور بأنفسهم . ويقول برونو بتليهايم : إن الأطفال الذين تم تعليمهم أو تكيفهم على الإصغاء في سلبية طوال غالبية ساعات اليوم إلى الرسائل الودية الشفهية التي تصلهم من شاشة التلفاز وإلى الجاذبية العاطفية العميقة لما يسمى بالشخصية التلفازية غالبا ما يعجزون عن الاستجابة للأشخاص الحقيقيين لأنهم يثيرون شعورا أقل بكثير من الممثل الماهر والأسوأ من ذلك أنهم يفقدون القدرة على التعلم من الواقع لأن خبرات الحياة أكثر تعقيدا من تلك التي يرونها على الشاشة .
إننا في حاجة ملحة لأن نقف وقفة حاسمة تجاه التلفاز نحدد فيها ما يمكن أن نشاهده والقدر من الوقت الذي نستغرقه فإذا فشلنا في هذه الوقفة فعلينا أن نختار بين التلفاز أو أطفالنا .